نوح عليه السلام دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، أي: تسعمائة وخمسين سنة وهو يدعو قومه؛ هذا من حيث المدة؛ أما من حيث الوسائل فقد دعا قومه ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، ثم تحمل الاستهزاء حينما كان يصنع الفلك، ((وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ))[هود:38]، وتحمل المجادلة الطويلة: ((قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا))[هود:32] فهم يشكون أنهم قد تعبوا من جداله، فكيف يكون تعبه، وهو وحده تقريباً؟! فالمؤمنون الذين معه قلة: ((وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ))[هود:40] والكثرة الكاثرة على الشرك، فإذا كانوا هم قد تعبوا، وقالوا: (قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا) فنوح عليه السلام أولى أن يكون قد تعب من جدالهم ودعوتهم.
وطال به الأمد، ونوّع أساليب الدعوة، وفي الأخير تعب وهو يصنع السفينة، ثم تعب وهو يقود السفينة، فحياته جهاد وتعب وتضحية، ثم يرى ابنه وهو يغرق مع القوم الكافرين، كل هذا مما تحمله نوح عليه السلام في ذات الله عز وجل.
وقد جاء نوح عليه السلام إليهم وهم قد انحرفوا عن التوحيد، ووقع فيهم الشرك، ومع هذا كانت لهم تأويلات في شركهم هذا كعادة المشركين في كل زمان ومكان، وهذا مما يسبب طول الجدال؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً كانوا قوماً صالحين، ويقصدون بالتقرب إليهم أن يقربوهم إلى الله، وأن يتوسطوا بهم إلى الله.. إلى غير ذلك، فالمعركة إذا كانت مع أناس يظنون أنهم على الحق، وأن ما عملوه هو الصواب، فهي أشق على الداعية من مواجهة قوم يعرفون أنهم على ضلال، وإن كابروا وعاندوا، لكن الأمد يطول مع من يتوهم ويظن أنه على الحق، فعانى نوح عليه السلام مع قومه أشد المعاناة، حتى نصره الله سبحانه وتعالى وأهلك القوم الكافرين.